كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إن القائل: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بالأمس} هو القبطي، وكان قد بلغه الخبر من جهة الإسرائيلي، وهذا هو الظاهر، وقد سبق ذكر القبطي قبل هذا بلا فصل؛ لأنه هو المراد بقوله عَدُوٌّ لَّهُمَا، ولا موجب لمخالفة الظاهر حتى يلزم عنه أن المؤمن بموسى المستغيث به المرّة الأولى، والمرّة الأخرى هو الذي أفشى عليه، وأيضًا إن قوله: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرض} لا يليق صدور مثله إلاّ من كافر، و{إن} في قوله: {إِن تُرِيدُ} هي النافية، أي ما تريد إلاّ أن تكون جبارًا في الأرض، قال الزجاج: الجبار في اللغة: الذي لا يتواضع لأمر الله، والقاتل بغير حق جبار.
وقيل: الجبار: الذي يفعل ما يريد من الضرب، والقتل، ولا ينظر في العواقب، ولا يدفع بالتي هي أحسن {وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} أي الذين يصلحون بين الناس.
{وَجَاء رَجُلٌ مّنْ أَقْصَى المدينة يسعى} قيل: المراد بهذا الرجل: حزقيل، وهو مؤمن آل فرعون، وكان ابن عم موسى، وقيل: اسمه شمعون، وقيل: طالوت، وقيل: شمعان.
والمراد بأقصى المدينة: آخرها وأبعدها، و{يسعى} يجوز أن يكون في محل رفع صفة لرجل، ويجوز أن يكون في محل نصب على الحال، لأن لفظ رجل وإن كان نكرة فقد تخصص بقوله: {مِنْ أَقْصَى المدينة} {قَالَ ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} أي يتشاورون في قتلك، ويتآمرون بسببك.
قال الزجاج: يأمر بعضهم بعضًا بقتلك، وقال أبو عبيد: يتشاورون فيك ليقتلوك: يعني: أشراف قوم فرعون.
قال الأزهري: ائتمر القوم وتآمروا، أي أمر بعضهم بعضًا، نظيره قوله: {وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] قال النمر بن تولب:
أرى الناس قد أحدثوا شيمة ** وفي كل حادثة يؤتمر

{فاخرج إِنّي لَكَ مِنَ الناصحين} في الأمر بالخروج، واللام للبيان؛ لأن معمول المجرور لا يتقدم عليه {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} فخرج موسى من المدينة حال كونه خائفًا من الظالمين مترقبًا لحوقهم به، وإدراكهم له، ثم دعا ربه بأن ينجيه مما خافه قائلًا: {رَبّ نَجّنِي مِنَ القوم الظالمين} أي خلصني من القوم الكافرين، وادفعهم عني، وحلّ بيني وبينهم {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاء مَدْيَنَ} أي نحو مدين قاصدًا لها.
قال الزجاج: أي سلك في الطريق الذي تلقاء مدين فيها. انتهى.
يقال: داره تلقاء دار فلان، وأصله من اللقاء، ولم تكن هذه القرية داخلة تحت سلطان فرعون، ولهذا خرج إليها {قَالَ عسى رَبّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السبيل} أي يرشدني نحو الطريق المستوية إلى مدين.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} أي وصل إليه، وهو الماء الذي يستقون منه {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ} أي وجد على الماء جماعة كثيرة من الناس يسقون مواشيهم، ولفظ الورود قد يطلق على الدخول في المورد، وقد يطلق على البلوغ إليه، وإن لم يدخل فيه، وهو المراد هنا، ومنه قول زهير:
فلما وردنا الماء زرقا حمامه

وقد تقدم تحقيق معنى الورود في قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] وقيل: مدين اسم للقبيلة لا للقرية، وهي غير منصرفة على كلا التقديرين.
{وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ} أي من دون الناس الذين يسقون ما بينهم وبين الجهة التي جاء منها، وقيل: معناه: في موضع أسفل منهم {امرأتين تَذُودَانِ} أي تحبسان أغنامهما من الماء حتى يفرغ الناس، ويخلو بينهما وبين الماء، ومعنى الذود: الدفع، والحبس، ومنه قول الشاعر:
أبيت على باب القوافي كأنما ** أذود بها سربًا من الوحش نزّعا

أي: أحبس، وأمنع، وورد الذود بمعنى الطرد، ومنه قول الشاعر:
لقد سلبت عصاك بنو تميم ** فما تدري بأي عصى تذود

أي: تطرد {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي: قال موسى للمرأتين: ما شأنكما لا تسقيان غنمكما مع الناس؟ والخطب: الشأن، قيل: وإنما يقال: ما خطبك لمصاب، أو مضطهد، أو لمن يأتي بمنكر {قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء} أي إن عادتنا التأني حتى يصدر الناس عن الماء، وينصرفوا منه حذرًا من مخالطتهم، أو عجزًا عن السقي معهم.
قرأ الجمهور: {يصدر} بضم الياء، وكسر الدال مضارع أصدر المتعدّى بالهمزة.
وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بفتح الياء وضم الدال من صدر يصدر لازمًا، فالمفعول على القراءة الأولى محذوف، أي يرجعون مواشيهم، والرعاء جمع راع.
قرأ الجمهور: {الرعاء} بكسر الراء.
وقرأ أبو عمرو في رواية عنه بفتحها.
قال أبو الفضل: هو مصدر أقيم مقام الصفة، فلذلك استوى فيه الواحد، والجمع.
وقرىء: {الرعاء} بالضم اسم جمع.
وقرأ طلحة بن مصرف: {نسقى} بضم النون من أسقى {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} عالي السن، وهذا من تمام كلامهما، أي لا يقدر أن يسقي ماشيته من الكبر، فلذلك احتجنا، ونحن امرأتان ضعيفتان أن نسقي الغنم لعدم وجود رجل يقوم لنا بذلك فلما سمع موسى كلامهما {سقى لهما} رحمة لهما، أي سقى أغنامهما لأجلهما، {ثم} لما فرغ من السقي لهما {تولى إِلَى الظل} أي: انصرف إليه، فجلس فيه.
قيل: كان هذا الظل ظل سمرة هنالك.
ثم قال لما أصابه من الجهد، والتعب مناديًا لربه {إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ} أيّ خير كان {فَقِيرٌ} أي محتاج إلى ذلك.
قيل: أراد بذلك الطعام، واللام في: {لِمَا أَنزَلْتَ} معناها: إلى.
قال الأخفش: يقال: هو فقير له، وإليه.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال: ثلاثًا وثلاثين سنة {واستوى} قال: أربعين سنة.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه قال: الأشد: ما بين الثماني عشرة إلى الثلاثين، والاستواء: ما بين الثلاثين إلى الأربعين، فإذا زاد على الأربعين أخذ في النقصان.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه أيضًا في قوله: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مّنْ أَهْلِهَا} قال: نصف النهار.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق ابن جريج عن عطاء الخراساني، عنه أيضًا في الآية قال: ما بين المغرب والعشاء.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضًا {هذا مِن شِيعَتِهِ} قال: إسرائيلي {وهذا مِنْ عَدُوّهِ} قال: قبطي {فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ} الإسرائيلي {عَلَى الذي مِنْ عَدُوّهِ} القبطي {فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ} قال: فمات، قال: فكبر ذلك على موسى.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه أيضًا في قوله: {فَإِذَا الذي استنصره بالأمس يَسْتَصْرِخُهُ} قال: هو صاحب موسى الذي استنصره بالأمس.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: الذي استنصره هو الذي استصرخه.
وأخرج ابن المنذر عن الشعبي قال: من قتل رجلين فهو جبار، ثم تلا هذه الآية: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرض} وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: لا يكون الرجل جبارًا حتى يقتل نفسين.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن عباس قال: خرج موسى خائفًا يترقب جائعًا ليس معه زاد حتى انتهى إلى ماء مدين، و{عَلَيْهِ أُمَّةً مّنَ الناس يَسْقُونَ} وامرأتان جالستان بشياههما، فسألهما: {مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} قال: فهل قربكما ماء؟ قالتا: لا، إلاّ بئر عليها صخرة قد غطيت بها لا يطيقها نفر، قال: فانطلقا، فأريانيها، فانطلقتا معه، فقال بالصخرة بيده، فنحاها، ثم استقى لهم سجلًا واحدًا فسقى الغنم، ثم أعاد الصخرة إلى مكانها {ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} فسمعتا، قال: فرجعتا إلى أبيهما فاستنكر سرعة مجيئهما، فسألهما فأخبرتاه، فقال لإحداهما: انطلقي فادعيه، فأتت، فقالت: {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فمشت بين يديه، فقال لها: امشي خلفي، فإني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي أن أرى منك ما حرّم الله عليّ، وأرشديني الطريق {فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استئجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استجرت القوي الأمين} قال لها أبوها: ما رأيت من قوّته وأمانته؟ فأخبرته بالأمر الذي كان، قالت: أما قوّته فإنه قلب الحجر وحده، وكان لا يقلبه إلاّ النفر.
وأما أمانته فقال: امشي خلفي وأرشديني الطريق لأني امرؤ من عنصر إبراهيم لا يحلّ لي منك ما حرّمه الله.
قيل لابن عباس: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أبرّهما وأوفاهما.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن عمر بن الخطاب قال: إن موسى لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلاّ عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين، قال: ما خطبكما؟ فحدّثتاه، فأتى الحجر، فرفعه وحده، ثم استقى فلم يستق إلاّ ذنوبًا واحدًا حتى رويت الغنم، فرجعت المرأتان إلى أبيهما، فحدّثتاه، وتولى موسى إلى الظلّ فقال: {ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير}.
قال: {فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِى عَلَى استحياء} واضعة ثوبها على وجهها ليست بسلفع من النساء خرّاجة ولاجة {قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا} فقام معها موسى، فقال لها: إمشي خلفي وانعتي لي الطريق، فإني أكره أن يصيب الريح ثيابك فتصف لي جسدك، فلما انتهى إلى أبيها قصّ عليه، فقالت إحداهما: {يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين} قال: يا بنية ما علمك بأمانته وقوّته؟ قالت: أما قوّته فرفعه الحجر ولا يطيقه إلاّ عشرة رجال، وأما أمانته فقال: امشي خلفي وانعتي لي الطريق؛ فإني أكره أن تصيب الريح ثيابك، فتصف لي جسدك، فزاده ذلك رغبة فيه، فقال: {إِنّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ} إلى قوله: {سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصالحين} أي في حسن الصحبة، والوفاء بما قلت {قَالَ} موسى: {ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ} قال: نعم، قال: {والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} فزوَّجه، وأقام معه يكفيه ويعمل في رعاية غنمه، وما يحتاج إليه، وزوجه صفورًا وأختها شرفًا، وهما اللتان كانتا تذودان.
قال ابن كثير بعد إخراجه لطرق من هذا الحديث: إن إسناده صحيح.
والسلفع من النساء الجريئة السليطة.
وأخرج أحمد في الزهد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} قال: ورد الماء حيث ورد، وإنه لتتراءى خضرة البقل في بطنه من الهزال.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه قال: خرج موسى من مصر إلى مدين وبينه وبينها ثماني ليالٍ، ولم يكن له طعام إلاّ ورق الشجر، وخرج حافيًا، فما وصل إليها حتى وقع خفّ قدمه.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضًا قال: {تَذُودَانِ} تحبسان غنمهما حتى ينزع الناس، ويخلو لهما البئر.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والضياء في المختارة عنه أيضًا قال: لقد قال موسى: {ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} وهو أكرم خلقه عليه، ولقد افتقر إلى شقّ تمرة، ولقد لصق بطنه بظهره من شدّة الجوع.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضًا قال: ما سأل إلاّ الطعام.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن أبي حاتم عنه أيضًا قال: سأل فلقًا من الخبز يشدّ بها صلبه من الجوع. اهـ.